هل المسيحية تقبل كل ما جاء في العهد القديم كعقيدة؟




مقدمة:

لا شك ان الكنيسة ورثت الكثير من العهد القديم، كمخافة الله المستعلن كخالق واله قدير، فعرفنا الله "إلوهيم - אֱלֹהִ֑ים" والذي يشير الي الثالوث اذ يعني الآلهة، وعرفناه كـ "يهوَه - יְהֹוָה" الكائن والذي كان، وعرفناه كسيد الكل "أدوناي - אֲדוֹנָ֔י- אֲדֹנָ֤י"، كل هذه الاسماء التي ورثناها كميراث روحي من العهد القديم، اثرت في عبادتنا علي مستوي واسع، وادخلت الجزء النسكي في عبادتنا، بل كان العهد القديم نفسه ظلاً لكل الطقوس التي تقوم بها الكنيسة[1] اليوم من تقديم البخور والقداس الالهي وغيرها من الليتورجيات المعروفة، ولا شك ان الله في العهد القديم لم يتغير عن العهد الجديد في جوهره اذ ظل الله ثالوثاً، وظل الهاً قديراً الكائن والذي كان سيداً علي الكل، ولكن ما تغير هو اعلان هذا الآله عن نفسه. 

1- وضع الله الناموس قديماً بسبب سيادة الموت حتي يعلن عن نفسه:

فما اعلن في العهد القديم عن الله كان مجرد قشور "ان جاز التعبير"، فبسبب سيادة الموت، حدث انفصال بين السماء والارض يقول القديس أثناسيوس: "لأجل هذا إذن ساد الموت أكثر وعم الفساد على البشر، وبالتالى كان الجنس البشرى سائرًا نحو الهلاك، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان الإنسان العاقل والمخلوق على صورة الله آخذًا في التلاشى، وكانت خليقة الله آخذةً في الانحلال. لأن الموت أيضًا، وكما قلت سابقًا، صارت له سيادة شرعية علينا (بسبب التعدى)، منذ ذلك الوقت فصاعدًا، وكان من المستحيل التهرب من حكم الناموس، لأن الله هو الذى وضعه بسبب التعدى، فلو حدث هذا لأصبحت النتيجة مرعبة حقًا وغير لائقة في نفس الوقت."[2] والواضح من كلام العظيم أثناسيوس ان الناموس وضع بسبب سيادة الموت التي صارت بعد تعدي ادم، فكل التطهيرات التي وضعها الناموس، وكل الطقوس التي وضعت والعبادات المختلفة والترتيبات والاعياد كنت موضوعة حتي يعلن الله نفسه من خلالها في ظل سيادة الموت. 

2- فشل الناموس في ان يجعل الناس ابرار لانه كان جسدياً:

وحتي نفهم الامر دعونا نركز في هذا النص الذي شرحه القديس بولس الرسول: " مَدْفُونِينَ مَعَهُ فِي الْمَعْمُودِيَّةِ، الَّتِي فِيهَا أُقِمْتُمْ أَيْضًا مَعَهُ بِإِيمَانِ عَمَلِ اللهِ، الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ. 13 وَإِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا فِي الْخَطَايَا وَغَلَفِ جَسَدِكُمْ، أَحْيَاكُمْ مَعَهُ، مُسَامِحًا لَكُمْ بِجَمِيعِ الْخَطَايَا،14 إِذْ مَحَا الصَّكَّ الَّذِي عَلَيْنَا فِي الْفَرَائِضِ، الَّذِي كَانَ ضِدًّا لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ الْوَسَطِ مُسَمِّرًا إِيَّاهُ بِالصَّلِيبِ،15  إِذْ جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ أَشْهَرَهُمْ جِهَارًا، ظَافِرًا بِهِمْ فِيهِ.16 فَلاَ يَحْكُمْ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ فِي أَكْل أَوْ شُرْبٍ، أَوْ مِنْ جِهَةِ عِيدٍ أَوْ هِلاَل أَوْ سَبْتٍ،17 الَّتِي هِيَ ظِلُّ الأُمُورِ الْعَتِيدَةِ، وَأَمَّا الْجَسَدُ فَلِلْمَسِيحِ."[3]

ليتضح لنا المعني يجب ان نفهم ماذا تعني كلمة "ناموس" هذه الكلمة جأت في العهد القديم في العبرية "תּרה תּורה - توراة" وتعني "قانون"[4]، كما يشير القديس بولس الرسول هنا الي أننا "كنا" أمواتاً بالخطية وغلف في الجسد "اي غير مختونين" ولكن المسيح أحينا بالرغم من اننا غرباء عن الموعد حسب "الناموس" بل ومحي الصك "الذي وضعه الناموس علينا"، وبالتالي فقد سقط عنا كل عوائد وطقوس العهد القديم، وسقط عنا الناموس نفسه! يقول القديس يوحنا ذهبي الفم " كان الناموس يعمل ليجعل الناس أبرارًا، لكنه لم يستطع، فجاء (المسيح) وفتح طريق البرّ بالإيمان، وبهذا حقّق ما اشتهاه الناموس؛ ما لم يستطيع الناموس أن يحقّقه بالحرف حقّقه هو بالإيمان. لهذا السبب يقول: ما جئت لأنقض الناموس"[5].

3- أكمل الرب يسوع الناموس علي الصليب في جسده فحررنا منه:

ونفهم من كلمات القديس يوحنا، ان الرب يسوع عندما قال: "لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ"[6] كان يقصد انه قد اكمل الناموس الذي عجز البشر عن تكميله! فيقول القديس يوحنا ذهبي الفم ايضاً "لقد أكمل الأنبياء بقدر ما أكّد بأعماله كل ما قيل عنه، فقد اعتاد الإنجيلي أن يقول في كل حالة: "لكي يتم ما قيل بالنبي" (مت 1: 22-23)، وذلك عندما وُلد، وعندما ترنم له الأطفال بالتسبحة العجيبة، وعندما ركب الأتان (مت 21: 5-16)، وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة. لقد حقّق هذه الأمور التي ما كان يمكن تحقيقها لو لم يأتِ"[7]، وبتكميل هذا الناموس الذي لم يستطيع ولا أنسان أكماله، انتهت سلطته وسيادته حيث انه اكمل كل الناموس علي الصليب وصرخ اخيراً ".. «قَدْ أُكْمِلَ». وَنَكَّسَ رَأْسَهُ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ"[8]، ونفهم اخيراً ان المسيح أتمم الناموس في جسده، فتم فيه كل حكم الناموس وكل القوانيين التي نصها الناموس نفذها الرب يسوع كلها، وبهذا اكمل الناموس عنا، وصرنا نحن احراراً من الناموس كما يقول القديس بولس: "وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ تَحَرَّرْنَا مِنَ النَّامُوسِ، إِذْ مَاتَ الَّذِي كُنَّا مُمْسَكِينَ فِيهِ، حَتَّى نَعْبُدَ بِجِدَّةِ الرُّوحِ لاَ بِعِتْقِ الْحَرْفِ."[9]

4- العهد القديم لا يجب ان يكون مرجع للعقيدة لانه ببساطة يعلن لنا الله في سيادة الموت وليس في سيادة الحياة بعد الصليب:

اذا أقام احد القادة قانوناً يلزم كل فرد في الدولة بأن لا يدخل مكان معين، وأمر انه اذا دخل اي فرض في الدولة هذا المكان يقتل، وبعدها جاء أخر ونقد القانون الاول واصبح هذا المكان مفتوح للكل، فهل يمكن ان نستعين بالقانون الذي نقد لنثبت صحة امر ما داخل هذه الدولة؟! قطعاً الاجابة هي لا!

بموت المسيح علي الصليب بدأ عهد جديد بدم المسيح، هذا العهد الذي خرجت منه الكنيسة، وكتب فيه القديس بولس وبطرس ويوحنا ويعقوب وغيرهم اذ نقلوا ما وضعه الروح القدس نفسه في قلوبهم، فاصبحت الكنيسة تخضع للأعلان الكامل لله عن نفسه في المسيح يسوع وهذا ما يقول كاتب رسالة العبرانيين: "الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيرًا لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي"[10]، وهذا الاعلان الكامل عن الرب يسوع الذي استلامناه من خلال كلمات الانجيل في العهد الجديد اوضح لنا نقائص الناموس، وما كان الناموس عاجز عنه، فنجد الرب يسوع يعلم بناموس الحرية، فيشفي في السبت[11]، ويتكلم مع السامرية[12]، ويلمس الابرص[13]، وغيرها الكثير من المواقف التي حررنا فيها من ناموس العبودية والفرائض، واظهر لنا محبة الله الآب، لكي لا نستعبد بعد للناموس، بل نعيش حرية مجد اولاد الله.

هوامش:

1- راجع (عبرانيين 10: 1)
2- تجسد الكلمة - 6: 1 - 3، ترجمة د. جوزيف موريس فلتس
3- راجع (كولوسي 2: 12 - 17)
4- قاموس سترونج - H8451
5- القديس يوحنا ذهبي الفم - In Ioan tr 86: 5; Ser. On N. T. lessons 95: 3.
6- راجع (متي 5: 17)
7- القديس يوحنا ذهبي الفم -  In Matt. hom 16:3
8- راجع (يوحنا 19: 30)
9- راجع (رومية 7: 6)
10- راجع (عبرانيين 1: 3)
11- راجع (يوحنا 5: 9)
12- راجع (يوحنا 4)
13- راجع (متي 8: 3)

رابط مختصر للمقالة: https://goo.gl/fBLbvi

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

1 التعليقات:

التعليقات