ماذا يعني الصليب بالنسبة للمؤمن المسيحي؟




الروح القدس هو كمثل الحمامة التي تقودنا للحمل "كتعبير الاب ليفه جيله - كتاب الحمامة والحمل" فحينما ظهر الروح القدس ظهر في شكل حمامة وما تعلمناه عن الحمامة من فم الرب يسوع هو "الوداعة" فالروح القدس روح وديع، دائماً ما ينتظر قلب خاضع ومتضع ليسكن فيه، ولكنه لا يستريح في القلب المتكبر والمنتفخ.

متي وجد الروح القدس مسكناً متضعاً، يسكن فيه ويطمئن ويبدء في اظهار ثماره ومواهبه في قلب المؤمن، ومنها ينطلق المؤمن في الحياة مع الله، الحياة الحقة تحت قيادة حقيقة من روح الله الناري، ويظهر الروح القدس بكثير من الاسماء في الكتاب المقدس فمثلاً كما جاء في سفر اشعياء النبي:

وَيَحِلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ رُوحُ الْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ الرَّبِّ (اشعياء 11: 2)

كل اسم من هذه الاسم تنير اعيننا لصفة من صفات هذا الروح الناري العظيم، ولكن لم يكتفي الكتاب المقدس بهذه الاسماء فقط بل جاء ايضاً في رسالة القديس بطرس الاولي باسم "روح المجد":

إِنْ عُيِّرْتُمْ بِاسْمِ الْمَسِيحِ فَطُوبَى لَكُمْ، لأَنَّ رُوحَ الْمَجْدِ وَاللهِ يَحِلُّ عَلَيْكُمْ. أَمَّا مِنْ جِهَتِهِمْ فَيُجَدَّفُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَتِكُمْ فَيُمَجَّدُ. (بطرس الاولي 4: 14)

ويعلق الاب تادرس يعقوب ملطي في تفسيره لرسالة بطرس الاولي علي هذا العدد ويقول:

[مادامت الآلام والتعييرات ليست نابعة عن عداء شخصي أو بسبب خطأ ارتكبه المؤمن، بل "باسم المسيح" فطوباه. وسرّ هذا التطويب أن الروح القدس "روح المجد" يحل على المتألم من أجل الرب. يحل عليه لكي يحمل أتعابه ويسنده، ويحل عليه ليهبه مجدًا] [1]

من الواضح ان روح المجد يظهر في الانسان في حالة اشتراك المؤمن في الالم المسيح، وهي الالم التعيير لاجل اسم المسيح، هذه الالم التي تكلم عنها القديس بولس الرسول فقال:

فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَداً فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضاً وَرَثَةُ اللهِ وَوَارِثُونَ مَعَ الْمَسِيحِ. إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضاً مَعَهُ (رومية 8: 17)

فكل الالم مع المسيح هو مقدمة للمجد، وبالتالي كل الالم يشعر به المؤمن في سبيل الشهادة عن الرب يسوع ياخذ في مقابلة روح المجد التي تزرع في القلب مجداً وتعزية لا ينطق بها.

1- الصليب وشركة الالم في حياة المؤمن:
هل انت مؤمن؟ حسناً تفعل، ولكن ان كنت مؤمن ولم تتذوق الالم المسيح اذ عيرت لاجل اسمه فانت لم تكن مؤمناً بعد!

يقول القديس غريغوريوس النزينزي ( 329م - 390م):

[فصح الرب؛ في هذه المناسبة ليقدم كل واحد ثمراً صالحاً، قرباناً لائقاً بالعيد، سواء كان صغيراً أو كبيراً، من الاشياء الروحية المحبوبة عند الله، كل واحد علي قدر طاقته.. لنذبح لله ذبيحة التسبيح علي المذبح السماوي مع الخوارس العلوية.. بل اني اقول ما هو اعظم من ذلك: لنذبح لله ذواتنا او بالحري لنقدم نفوسنا ذبائح كل يوم وفي كل مناسبة. لنقبل كل شىء من اجل خاطر اللوغوس، لنتمثل بآلامه بواسطة آلامنا، ولنكرم دمه بواسطة دمائنا، ولنصعد علي الصليب بشجاعة؛ فإن المسامير حلوة ولو أنها مؤلمة للغاية، لأن الألم مع المسيح ومن اجل المسيح أفضل من الحياة الهنية مع الآخرين!] [2]

الآلم لاجل الشهادة بالحق الذي علمه لنا الرب يسوع خلال كلماته التي تركها لنا في الانجيل المقدس، هو اروع انواع الشركة، فقد تتشارك مع اي شخص في المحبة فهذا لن يكلفك الكثير ولكن قليلاً جداً ما تشاركه في الآلم لان الاشتراك فيه دائماً مكلف ومتعب!

ولكن القانون الصريح الذي وضعه القديس بولس "إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضاً مَعَهُ" فلا مجد بدون الآلم ولا راحة بدون بذل فان كانت شركة الآلم بهذه الدرجة من الاهمية فما هي وصية الرب من جهتها، وكيف نسلك فيها وماذا سيعود علي بعد ان اسلك فيها؟

حِينَئِذٍ قَالَ يَسُوعُ لِتَلاَمِيذِهِ: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي (متي 16: 24)

لا مجال ولا سبيل لتباعية المسيح دون المرور بحمل الصليب وما هو حمل الصليب الا شركة الآلم من اجل الشهادة باسم الرب يسوع، فحصولنا علي حمل الصليب لن ياتي قبل انكار الذات وقد تكلمنا عن انكار الذات في مقالتنا الاولي بعنوان صلاة التوبة الارثوذكسية فأنكار الذات هي حالة من الخروج من الذات والاتجاه الي الله خلال التوبة وهو بالضبط ما قاله الرب يسوع "ينكر نفسه".

فمرحلة حمل الصليب تاتي بعدما يترك الانسان عنه كل احمال الخطية، ويبدء في حياة التوبة والبر والقداسة التي للرب يسوع، حيث يبدء الروح القدس في العمل داخل النفس، فتنبع داخل الانسان الرغبة القوية في الشهادة عن الرب يسوع، وتظهر هذه الرغبة في سلوكه وطريقة كلامه، فيصير محور حياته وكلامه هو الشهادة عن الرب يسوع هنا يبدء حمل الصليب.

حمل الصليب هو ما تكلم عن الرب يسوع نفسه في التطوبيات فقد اعطي الطوبي لمن طرد وعير:

طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ مِنْ أَجْلِي كَاذِبِينَ. 12 افْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاوَاتِ فَإِنَّهُمْ هَكَذَا طَرَدُوا الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ. (متي 5: 11 - 12)

2- التجلي وروح المجد:
وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا أَخَاهُ وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ مُنْفَرِدِينَ. 2 وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنُّورِ. 3 وَإِذَا مُوسَى وَإِيلِيَّا قَدْ ظَهَرَا لَهُمْ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ. 4 فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقُولُ لِيَسُوعَ: «يَا رَبُّ جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ هَهُنَا! فَإِنْ شِئْتَ نَصْنَعْ هُنَا ثَلاَثَ مَظَالَّ. لَكَ وَاحِدَةٌ وَلِمُوسَى وَاحِدَةٌ وَلِإِيلِيَّا وَاحِدَةٌ».

5 وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا سَحَابَةٌ نَيِّرَةٌ ظَلَّلَتْهُمْ وَصَوْتٌ مِنَ السَّحَابَةِ قَائِلاً: «هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ. لَهُ اسْمَعُوا».

6 وَلَمَّا سَمِعَ التَّلاَمِيذُ سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَخَافُوا جِدّاً. 7 فَجَاءَ يَسُوعُ وَلَمَسَهُمْ وَقَالَ: «قُومُوا وَلاَ تَخَافُوا». 8 فَرَفَعُوا أَعْيُنَهُمْ وَلَمْ يَرَوْا أَحَداً إِلاَّ يَسُوعَ وَحْدَهُ. (متي 17: 1 - 8)

بعدما تكلم الرب يسوع عن حمل الصليب كفعل لزم ليصير اي مؤمن تلميذ للمسيح، اخذ "الاعمدة" بطرس ويوحنا ويعقوب وصعد علي جبل عال وتجلي امامهم! بعدما انتهر بطرس وقال له انه يجب ان يحمل صليبه، اخذه ليعاين مجده!

فقد شهد القديس بطرس نفسه عن هذه الحدثه في رسالته قائلاً:

لأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ. 17 لأَنَّهُ أَخَذَ مِنَ اللَّهِ الآبِ كَرَامَةً وَمَجْداً، إِذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ صَوْتٌ كَهَذَا مِنَ الْمَجْدِ الأَسْنَى: «هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي أَنَا سُرِرْتُ بِهِ». 18 وَنَحْنُ سَمِعْنَا هَذَا الصَّوْتَ مُقْبِلاً مِنَ السَّمَاءِ إِذْ كُنَّا مَعَهُ فِي الْجَبَلِ الْمُقَدَّسِ. (بطرس الثانية 1: 16 - 18)

يقول القديس انبا مقار الكبير:

[ والرب يناقش النفس ويريها مواضع المسامير قائلاً: انظري علامات المسامير، انظري الجلدات، انظري البصاق، انظري الجروح، هذه كلها تألمت بها من اجلك.. لأني بمحبتي للبشر جئت أطلبك وأحررك، لأني منذ البدء جبلتك علي صورتي، وخلقتك لتكوني عروساً لي.. والرب يظهر نفسه لها علي هيئتين: علي هيئة جروحه، وعلي هيئة نوره المجيد. والنفس تري الآلام التي احتملها لأجلها، وتري المجد الفائق الذي لنوره الالهي، فتتغير إلي تلك الصورة عينها، من مجدٍ الي مجد كما من الرب الروح. وتتقدم في كلتا الهيئتين: في هيئة الآمه، وهيئة نوره المجيد، حتي تنسي بنوعٍ ما طبيعتها الخاصة، إذ تكون ممسوكة بالله، وممتزجة ومتحدة بالإنسان السماوي وبالروح القدس، بل تصير هي نفسها روحاً] [3]

بالضبط هذا هو فعل روح المجد فينا، فاذا تألمنا معه، يظهر لنا الرب يسوع طرق المجد، فياخذنا معه علي جبل عال ويتجلي امامنا، اما بنوره او بكلمته او بصوته واعلانه القوي، وفي كل الحالات ستمتليء النفس بالراحة والاطمئنان لانها تصير روحاً كما يقول القديس انبا مقار، فترتفع عن مستوي الجسد والانشغالات العالمية، وتسبح في التأمل السماوي الجميل.

هنا يبدء الله الرحلة مع النفس، ويبدء في أن يفتح ذهنا لتدرك اعماق محبة الله واسراره، ويصير الروح القدس مشتعلاً الي اعلي درجة، ويعلم النفس ويقودها ويرشدها الي الطريق الحقيقي الذي يجب ان تسلكه، ويرشدها في مسيرتها حتي المنتهي.

3- صلاة ليتورجيا علي حمل الصليب وروح المجد:
ابصالية ادام علي الهوس الثالث - اربصالين
هي تسبحة للرب يسوع كلماتها من تتمة سفر دانيال النبي وقصة الثلاثة فتية القديسين الذين تألموا من اجل الشهادة للحق وكانت النتيجة انهم نجوا من النار وصار الرب يسوع في وسطهم وحول الاتون الي ندي بارد!

كلماتها:

رتلو للذي صلب عنا وقبر وقام وأبطل الموت واهانه سبحوه وزيدوه علواً
أخلعوا الإنسان العتيق ألبسوا الجديد الفاخر وأقتربوا إلى عظم الرحمه سبحوه وزيدوه علواً
من أجل الهك مسيا المانح الإحسان هلما إلينا يا حنانيا سبحوه وزيدوه علواً
ياعزاريا الغيور عشيا وبكره والظهيره اعطي مجداً لقوة الثالوث سبحوه وزيدوه علواً
ها هوذا عمانوئيل في وسطنا يا ميصئيل تكلم بصوت التهليل سبحوه وزيدوه علواً
إجتمعوا وثابروا جميعاً تكلموا مع القسوس سبحي الرب يا جميع أعماله سبحوه وزيدوه علواً
ها السموات تنطق بمجد الله إلى هذا اليوم يا أيها الملائكه الذين أنشأهم سبحوه وزيدوه علواً
والأن يا قوة الرب باركوا أسمه الكريم أيتها الشمس والقمر والنجوم سبحوه وزيدوه علواً
أيضاً أيتها الأمطار والأنداء أمدحي مخلصنا لأنه هو إله أبائنا سبحوه وزيدوه علواً
اعطي مجدا أيتها السحب معاً الأهويه والنفوس والأرواح والبرد والنار والحراره سبحوه وزيدوه علواً
أيضاً سبحيه بغير فتور الرب ملك الملوك أيتها البحار والأنهار سبحوه وزيدوه علواً
هكذا نحن إذ ننظر إليهم فلنقل مع هذه الموجودات جميعها
باركي الرب يا جميع الطيور سبحيه وزيديه علواً
أيها الجليد والثلج والبهائم والوحوش باركي رب الأرباب سبحيه وزيديه علواً
سبحوا الرب كما يليق به وليس كالمخالفين يا أبناء البشر سبحوه وزيدوه علواً
مجداً وإكراماً قدمها أمامه يا إسرائيل بصوت التهليل يا كهنة عمانوئيل سبحوه وزيدوه علواً
يا خدام الله الحقيقيين وأنفس الأبرار المتواضعيين المحبين سبحوه وزيدوه علواً
الله إلهي أنا هو مخلصكم من الخطر يا سيدراك وميساك وعبد ناغو سبحوه وزيدوه علواً
أسرعوا بحرص عظيم يا أتقياء الرب وكل الطبائع التى صنعها سبحوه وزيدوه علواً
بروده ورياحاً أعطينا كلنا بغير أنقطاع لنقول بتمتع سبحوه وزيدوه علواً
كذلك عبدك المسكين سركيس أجعله بغير دينونه ليقل مع هؤلاء كشريك سبحوه وزيدوه علواً

الهوامش:
1- تفسير رسالة بطرس الاولي اصحاح 4 - ابونا تادرس يعقوب ملطي
2- عظة في عيد الفصح 45: 2 و23 - القديس غريغوريوس النزينزي
3- المجموعة الثالثة من العظات، عظة 3:2 - القديس انبا مقار الكبير

رابط مختصر للمقالة: https://goo.gl/xxs9tK

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة