تطور الليتورجيا في العهد القديم




كما وضحنا انه لابد من وجود ليتورجيا وطقس مرتبطين لتقديم اي عبادة مقبولة لدي الله، سنرصد في هذه الفقرة تطور الليتورجيا منذ ادم الي جبل سينا متتبعين كل حالة تعبدية تمت، ورصيد شكل هذه العبادة وتطورها الليتورجي وتطور طقسها.

تعبير الليتورجيا البدائية هو تعبير نسبةً الي اللاهوت البدائي الذي عرف قبل ظهور كنيسة البرية عند جبل سينا، اي لاهوت معرفة الله الشفاهي الذي سلم عبر الاجيال شفاهياً دون تدوين، ودون فيما بعد بروح النبوة علي يد موسي النبي، وكان يحتوي علي تعبيرات بدائية تظهر ومضات علي طريق معرفة الله ولكنها معرفة غير كاملة او معرفة ناقصة عن الله اذ لم يكن الله قد اظهر ذاته بشكل كامل للانسان لسبب لنتحدث عنه فيما بعد،والمقصود بالتعبير ككل (الليتورجيا البدائية) هي العبادات التي تمت في مرحلة ما قبل الناموس تبعاً لطقس معين دون تحديد او تقيد لليتورجيا المكان او ليتورجيا للكلمة.

وقد ذكرنا اول ذبيحة قدمها الانسان في التاريخ، وهي ذبيحة هابيل وقايين، اذ قد قبل الله فيها ذبيحة هابيل معلناً عن اول ليتورجيا عرفها التاريخ، وهي ليتورجية الذبيحة الدموية، وقدمت هذه الذبيحة بشكل فردي، وكان طقسها هو تقديم تقدمة من الغنم الثمينة (تك 4: 4).

ولم تظهر اي ليتورجيا اخري للذبيحة بعدها حتي الطوفان، اذ قدم البار نوح ثاني ذبيحة عرفها الكتاب المقدس علي الاطلاق وظهر بها تطوراً ليتورجياً، اذ بني مذبحاً وقدم ذبائح من البهائم والطيور معاً ولاول مرة يذكر الكتاب لفظ (طاهرة) مفرقاً بذلك بين نوعياً من الذبائح، لتكن ذبائح طاهرة وذبائح غير طاهرة، وقدمها محرقات اي انه وضع حطبً ووضعها علي الحطب واحرقها للرب، وكان هذا تطوراً ليتورجياً ملحوظ علي مستوي طقس تقديم الذبيحة وعلي مستوي اخر وهو ليتورجية المكان اذ بني مذبحاً! [وبنى نوح مذبحا للرب. واخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة واصعد محرقات على المذبح] (تك 8: 20).

أستمر أستخدام هذا الطقس في اليتورجيا البدائية الي ما بعد نوح وظهر هذا في ذبيحة أبينا أبراهيم حينما قدم ذبيحة علي مذبح للرب في (تك 12: 7) [وظهر الرب لابرام وقال لنسلك اعطي هذه الارض. فبنى هناك مذبحا للرب الذي ظهر له.]، ولكن طلب الله من أبراهيم ذبيحة تعتبر غريبة نسبياً، احدثت تطوراً رهيب علي مستوي نبوي للذبيحة الحقيقية اي ذبيحة الرب يسوع علي الصليب، اذ طلب الرب من أبراهيم ان ياخذ أسحق ابنه الذي يحبه ويقدمه محرقة له في جبل من جبال ارض المريا [فقال خذ ابنك وحيدك الذي تحبه اسحق واذهب الى ارض المريّا واصعده هناك محرقة على احد الجبال الذي اقول لك.] (تك 22: 9).

وقد قدم ابراهيم هذه الذبيحة ايضاً علي نفس طقس الليتورجيا البدائية المعروفة من ايام نوح، اذ قد بني مذبحاً واخذ الحطب ووضعه علي المذبح لأحراق الذبيحة ثم اخذ الذبيحة (أبنه) ووضعها علي المذبح، وقد ظهر ايضاً تطوراً في الليتورجيا المكان اذ انه قد أصعد الذبيحة علي جبل (تك 22: 9)، ولم يشاء الله ان يذبح ابراهيم ابنه، بل فدي اسحق بكبش (تك 22: 13) معلناً الله ليتورجية هذا الزمن مرة اخري وبشكل واضح.

كما لا يمكنا ان نعبر عن ابينا ابراهيم دون ذكر لذبيحة ملكي صادق الكاهن العجيبة والبدعية، لتكون ثاني ذبيحة ذات بعد نبوي يقدمها الانسان في التاريخ، اذ قدم هذا خبزاً وخمراً، ولم يذكر الكتاب عنه الا انه كان كاهناً لله العلي، والغربية انه لم يكن قد ظهرت رتبة الكهنوت اصلاً، ولم يعرف شىء عن ليتورجية تقدمة الخبر والخمر، ولم يكن له اصول منذ بدء التاريخ، وكأنه سر مكتوم فضل الوحي الالهي ان لا يتكلم عنه الا في كلمات بسيطة، معلناً ان سر ليتورجية الافخارستيا لم يكن وقته ليعلن بعد، بل كانت ملكي صادق وتقدمته ظلاً ايضاً لحقيقة لم نعرفها الا في كنيسة العهد الجديد. [وملكي صادق ملك شاليم اخرج خبزا وخمرا. وكان كاهنا للّه العلي] (تك 14: 18)

واذ قد تكلمنا عن زمن أبونا ابراهيم خليل الله، فلابد علينا ايضاً ان نتكلم عن أيوب البار، اذ اثبتت الكثير من الدارسات التي اجريت حول سفر ايوب ان هذا السفر هو من اول الاسفار التي كتبت علي مستوي التاريخ والاهم من ذلك ان الدراسات ذكرت ان ايوب الصديق عاش في الفترة ما بين نوح وأبراهيم![1]

اذ قدم نوح ايضاً ذبيحة علي نفس طقس الليتورجيا البدائية فيذكر سفر ايوب: [وكان لما دارت ايام الوليمة ان ايوب ارسل فقدسهم وبكّر في الغد واصعد محرقات على عددهم كلهم. لان ايوب قال ربما اخطأ بنيّ وجدفوا على الله في قلوبهم. هكذا كان ايوب يفعل كل الايام] (آي 1: 5).

وظهر في ذبيحتة بعد ليتورجياً جديداً، اذ قد قدم الذبيحة عن اولاده، ملعناً ايضاً عن تطور ليتورجي بامكانية تقديم الذبيحة عن الاخريين، اي ان الذبيحة لم تعد مقتصرة علي الفرد بل ايضاً قابلة للتقديم عن الجماعة، وبهذا ظهرت اولي ملامح ليتورجية كنيسة البرية، التي اصبحت ليتورجيا بالمعني الحقيقي والكامل.

وظلت الذبائح علي هذا المستوي طقساً وليتورجيتاً وظهر هذا ايضاً في ذبيحة اسحق (تك 26: 25)، وذبيحة يعقوب (تك 33: 20)، وكما في ايام ابراهيم اختار الله مكان ليعقوب ليصعد محرقة به وهو بيت أيل [ثم قال الله ليعقوب قم اصعد الى بيت ايل وأقم هناك واصنع هناك مذبحا لله الذي ظهر لك حين هربت من وجه عيسو اخيك.] (تك 35: 1)، وكما ذكرنا ان طقس الليتورجيا هو شىء يسلم من قبل الله فقد اختار الله هذا المكان وبركه وقدسه كما اختار ايضاً ارض المريا لابراهيم ليكن مكان لأسمه وطلب من يعقوب ان يصعد الذبيحة فيه.

استمرت الليتورجيا البدائية حتي في عصر موسي قبل الوصول الي جبل سيناء فمن الجبل انحضرت كنيسة العهد القديم بطقسها وليتورجيتها البديعة، فاول ذبيحة ذكرت بعد ذبيحة أبنا يعقوب كانت هي ذبيحة موسي النبي بعد ما حارب عماليق وغلب [فبنى موسى مذبحا ودعا اسمه يهوه نسّي] (خر 17: 15)

وعند الجبل أختلفت الموازين، فتسربت ليتورجيا كنيسة البرية شىء فشىء الي ان ظهرت بشكل كامل في صورة خيمة الاجتماع، أهم مظاهر تطور الليتورجيا في هذا الوقت، كانت هي العهد الدموي خلال المذبح!

[فأخذ موسى نصف الدم ووضعه في الطسوس. ونصف الدم رشّه على المذبح 7 واخذ كتاب العهد وقرأ في مسامع الشعب. فقالوا كل ما تكلم به الرب نفعل ونسمع له. 8 واخذ موسى الدم ورشّ على الشعب وقال هوذا دم العهد الذي قطعه الرب معكم على جميع هذه الاقوال] (خر 24: 6).

ويعتبر هذا الاعلان هو الاعلان النبوي الثالث للذبيحة اذ قد اُعلن فيه انه لا يكون عهد بدون سفك دم، ليكن سفك دم المسيح هو عهد الصلح بين الله والانسان!

ومن هنا بدئت كنيسة البرية تظهر مع ظهور العهد او الناموس والشريعة، وظهر كنيسة العهد القديم بطقوسها وليتورجيتها البديعة التي هي ظل لليتورجيا السماوية، ونزلت من الجبل عروس العهد القديم المزينة بكل جمال ملكها وربها يهوه القدوس.

جبل سيناء والملامح الرئيسية لكنيسة البرية (كنيسة العهد القديم) وليتورجيتها:
[ظلت الكنيسة في فكر الله منذ الازل ولما حان وقت استعلانها للبشر أراها الرب لموسي علي الجبل، بعدما صام موسي أربعين نهاراً واربعين ليلة اظهر له الله خيمة غير مصنوعة بيد، وأوصاه ان يصنع كل شىء بحسب المثال الذي رأته عيناه (خروج 25: 40) ، عبرانيِّين (8: 5)، فتصميم الكنيسة إذاً لم يكن من أنسان بل من الله. فانحدرت الكنيسة من الجبل وهي في فكر موسي، حتي أكمل كل الشعب بناءها علي الارض، بكل إتقان وإلهام وإذعان. فصارت كنيسة الجبل والبرية، أول كنيسة للإنسان، كنيسة شبه السماويات وظلها ومحل سكني الله وسط شعبه، ومحل عبادة الشعب لربه الإله.] [2]

ظلت الليتورجيا البدائية عاملة حتي خرج شعب الله من ارض مصر ووصل الي جبل سيناء، اذ قد كانت هذه الذبائح الأساس المتين الذي مهد لظهور ليتورجية كنيسة البرية، فموسي النبي الذي استلم الناموس وطقس ليتورجية كنيسة البرية، كان لديه خلفية واسعة عن ذبائح الليتورجيا البدائية وطقسها كما وضحنا انه قدم ذبيحته بعد حرب عماليق والانتصار عليهم، علي نفس منهج الليتورجيا البدائية.

وعلي هذا الأساس وفي اخر ضربات الله علي ارض مصر، وضع الله ضربة وهي ضربة موت الابكار، ليعلن في هذه الضربة عن سر أظهر تطوراً عميق في الليتورجيا البدائية، حتي وصلت هذه الليتورجيا الي أقصي تطورها عندما أعلن الله عن سر خروف الفصح، اذ لم يكن ممكناً ان تخرج كنيسة البرية الا من خلال دم خروف الفصح، اذ كان هذا الخروف مثلاً الي المسيح المذبوح كما وضح ذلك القديس بولس الرسول في رسالته الاولي الي اهل كورينثوس: [اذا نقوا منكم الخميرة العتيقة لكي تكونوا عجينا جديدا كما انتم فطير. لان فصحنا ايضا المسيح قد ذبح لاجلنا] (1كو 5: 7).

ونلاحظ أستخدام الرسول للفظة (فصحنا)، معلاناً بذلك ان خروف الفصح كان مثلاً لذبيحة المسيح علي الصليب، وكما خرجت كنيسة العهد الجديد من ذبيحة الصليب، خرجت ايضاً كنيسة العهد القديم من ذبيحة الفصح.

ولم يشاء الله ان يعلن عن ليتورجية كنيسة العهد القديم بشكل واضح، ما لم يتم اولاً الفصح ويتطهر الشعب بدم خروف الفصح، معلناً الله بذلك انه لا يمكن ان تظهر الكنيسة ما لم يؤسسها هو بنفسه، كما وضحنا ان الله هو الذي كان يختار ليتورجية المكان كما اختار ارض المريا لذبيحة ابينا ابراهيم وبيت ايل لذبيحة ابينا يعقوب، كاشارة الي ان الكنيسة التي هي مسكن الله مع الناس، لا يمكن ان تنبع الا من خلال دم الفداء ولو رمزياً، اذ كان خروف الفصح صورة ومثال للمسيح المذبوح كما وضحنا

وفي هذا يقول المتنيح الانبا يؤنس اسقف الغربية: [لكن الله لم يسكن مع هؤلاء رغم حبه لهم.. لماذا؟ لأنه ما كان ممكناً ان يسكن الله وسط شعبه إلا بعد إتمام الفداء بالدم ولو رمزياً، أي بعد الصلح. كان لزماً أن يُذبح خروف الفصح، ويخرج الشعب بقوة الدم، ويعتقوا من العبودية قبل ان يكون لله بيت مقدس في وسطهم!!][3]

ومن دم خروف الفصح (خر 12: 7)، وبعدها دم العهد الذي رش بيه الشعب قبل الصعود الي جبل سيناء للقاء الله (خر 24: 6)، خرجت كنيسة العهد القديم بلتورجيتها وطقسها وذبائحها واعيادها، لتكن البذرة والاساس المتين الذي سوف تقوم عليها فيما بعد كنيسة العهد الجديد بطقوسها وليتورجياتها واعيادها وكل ما سوف نشمله في هذا البحث.

ومن الأساس ايضاً التي قامت عليها كنيسة العهد القديم، بعد حجر زويتها الذي هو المسيح نفسه مصوراً في صورة خروف الفصح، كانت هي مخافة الله، كأعلان انه لا يمكن ان تقوم عبادة حقيقة وتنشاء ليتورجيا ثابتة لاعلاقة حية مع الله دون ان تمر هذه الليتورجيا بفرن مخافة الله ان جاز التعبير، اذ ان مخافة الله هي الاساس المتين الذي تقوم عليه المحبة الالهية التي تعتبر كما وضحنا الحذر الذي تقوم عليه عبادتنا بشكل اساسي.

هوامش:
1- مقدمة تفسير سفر ايوب للقمص تادرس يعقوب ملطي.
2- الكنيسة مبناها ومعناها – القس أثناسيوس المقاري ص18
3- العبادة في كنيستنا دلالتها وروحانيتها – المنتيح الانبا يؤنس اسقف الغربية ص12

لفهم جيد للمقالة رجاء قراءة المقالة السابقة لها من هنا
رابط مختصر للمقالة: https://goo.gl/JdQiKi

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة