كيف نقبل روح الحكمة والاعلان؟




هل يوجد حياة روحية متزنة يمكن ان يحيها المؤمن دون ان يكون لديه روح الحكمة؟! في الحقيقة دائماً ما تكون الاجابة بالسلب، لانه ما لم ناخذ روح الحكمة وتكون هي رأس أعمالنا حتي في المحبة فقد نفقد الكثير والكثير، وهكذا عملتنا كلمة الله:

الْحِكْمَةُ هِيَ الرَّأْسُ فَاقْتَنِ الْحِكْمَةَ وَبِكُلِّ مُقْتَنَاكَ اقْتَنِ الْفَهْمَ. (امثال 4: 7)

والتمرن علي الثبات في روح الحكمة يعطينا روح الافراز والتميز التي توضح امامنا الطريق الروحي، وترينا وتفتح عيوننا الي مرحلة الاستنارة، فنفرز بين النور والظلام، بين روح الحق وروح الضلال، بين شجرة معرفة الخير والشر وشجرة الحياة!

وكما تعلمنا كلمة الله ايضاً ان: مَخَافَةُ الرَّبِّ رَأْسُ الْمَعْرِفَةِ. أَمَّا الْجَاهِلُونَ فَيَحْتَقِرُونَ الْحِكْمَةَ وَالأَدَبَ. (امثال 1: 7)

فلابد قبل الدخول في الحكمة ان يمتليء القلب من مخافة الله، التي هي الميراث الوحيد الذي ورثناه عن العهد القديم، فكل من يقراء العهد القديم مساق من الروح القدس، يكشف هذا الروح الناري عن عينه سر عظيم وميراث سماوي كان موجوداً في العهد القديم وهو مخافة الله، فلا اساس للعبادة ولا اساس للحكمة ولا حتي للتوبة يفوق مخافة الله، وقد كتبنا في موضوع مخافة الله من قبل يمكنك الاطلاع عليه في مقالة: مخافة الله كأساس ليتورجية العهد القديم كما ستجد في مدونتنا قسم خاص يتكلم عن مخافة الله ننشر فيه كل المقالات الخاصة بمخافة الله.
اذا قرئت المقالة ستدرك امر هام وهو ان مخافة الله ليست حسب الفكر الاسلامي العربي اذ قد تشعبت الكلمة الي معاني اخري في هذا الفكر، ولكن مخافة الله هي تكريم الله الذي يليق به كاله خلال العبادة "الخدمة" [1]، والتي من خلال هذه المخافة نقتني روح الحكمة والاعلان.

1- الرب يسوع نبع الحكمة ومصدرها:

يقول القديس كيرلس الكبير: يرتل دواد قائلاً في موضع ما "كرسيك يا الله الي دهر الدهور" ثم يقول "لذلك مسحك الله الهك بزيت البهجة" (مز 45: 7)، لقد كان الكلمة يملك مع الاب من قبل هذه المسحة، فكيف اذن يُمسح ليصير ملكاً، وكيف يُقدَّس، وهو المالك والقدوس في كل حين؟ فكما أنه مع كونه هكذا (مالكاً وقدوساً)، يقال عنه إنه ينال الملك في آخر الازمنة، هكذا أيضاً مع كونه هو العلي، قيل عنه إنه يُرفع (في 2: 9)، ويُمسح (مز 45: 7)، ويُقدَّس (يو 17: 19)، من أجلنا نحن، حتي بواسطته تتدفَّق النعمة أيضاً في الجميع، بصفتها قد منحت فعلاً لطبيعتنا (فيه)، وبالتالي اذخرت لسائر جنسنا، وبهذا المعني قال المخلص في انجيل يوحنا: "لأجلهم اقدس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضاً مقدسين" (يو 17: 19)، فإن كل ما في المسيح قد صار لنا. فإنه لم يقبل هذا التقديس لأجله هو - اذ أنه هو صانع التقديس - بل قبله لكي يوصله لطبيعتنا بواسطة نفسه. وهكذا قد صار طريقاً وبدايةً للخيرات الحاصلة لنا، وبهذا المعني قال "انا هو الطريق" (يو 14: 6)، أي الذي من خلاله تنحدر نحونا النعمة الإلهية، لكي ترفع وتقدس وتمجد وتؤله طبيعتنا أولاً في المسيح![2]

دائماً ما تتدهشني كلمات القديس كيرلس الكبير، فهو يشهد ان كل ما فعله المسيح فعله لكي ينقل لنا ما له، ومن المعروف لكل من درس الكتاب المقدس ان من القاب الرب يسوع في الكتاب المقدس هو الحكمة!

أَنَا الْحِكْمَةُ أَسْكُنُ الذَّكَاءَ وَأَجِدُ مَعْرِفَةَ التَّدَابِيرِ. (امثال 8: 22)

وَمِنْهُ أَنْتُمْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ الَّذِي صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ اللهِ وَبِرّاً وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً. (كورينثوس الاولي 1: 30)

اذا ان اردنا روح الحكمة فلابد علينا ان نطلبها من المسيح ذاته، لانه هو النبع الذي يعطي اذ قد دفع اليه الاب السلطان (لو 10: 22)، وقد دفع اليه هذا لكي يعطيه لنا، ولا يمكن ان ناخذ شىء من المسيح الا من خلال الروح القدس، الذي ينقل لنا كل ما للمسيح، لذلك فطلبتنا الان هي لروح الحكمة والاعلان ينقل لنا ويفعل فينا حكمة الله الفائقة المعرفة، وهذا ما قاله بالضبط القديس يعقوب الرسول في رسالتله حينما قال: وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللَّهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ. (يع 1: 5)

2- روح الحكمة والاعلان:
كَيْ يُعْطِيَكُمْ إِلَهُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَبُو الْمَجْدِ، رُوحَ الْحِكْمَةِ وَالإِعْلاَنِ فِي مَعْرِفَتِهِ (افسس 1: 17)

يعلق ابونا تادرس يعقوب ملطي: يطلب لهم "روح الحكمة"، كما يطلب لهم "الإعلان في معرفته". لم يقل "في معرفة أسراره"، وإنما "في معرفته" هو، إذ يشتاق أن يدركوه هو شخصيًا ويتعرفوا عليه ككائن يتحدون معه. نحن نحتاج أن يهبنا الله روح الحكمة والمعرفة، فإن كان قد وهبنا العقل من عندياته، لكننا إن سلكنا بالعقل وحده دون الالتجاء إلي الله ننحرف عن الحكمة والمعرفة الحقة. [3]

روح الحكمة والاعلان هي روح المسيح فينا، هي روح تعليم المسيح، فالحكمة هي البناء او البنيه التحتية لاي حياة روحية سلمية، فاي حياة روحية مبنية علي الحكمة تصير مثل الصخر، لانها مبنية علي الرب يسوع نفسه كما اوضحنا انه هو ذاته الحكمة، ولا يمكن ان نقتني الحكمة ما لم تصير لنا شركة مع كلمة الله، فالقراءة باستمرار في كلمة الله تشعل فينا الحكمة ومع وجود مخافة الله فستجعلنا الحكمة نفكر في الوصية مائة مرة قبل ان نفعل اي شىء، فيهرب منا التسرع، وينضبط اللسان والفكر، وندخل في عمق افكارنا واقولنا وافعالنا، ونفرزها جيداً، ونحكم بالحكمة في كل شىء فتصير حياتنا حياة سلمية متزنة، كصورة حقيقة لحياة المسيح فينا.

فالروح الحكمة تنقل لنا ما للحكمة نفسه اي الرب يسوع، فان لم نكن نعرف ما قاله الرب يسوع فكيف سيذكرنا به الروح؟! لذلك لابد علي اي مؤمن ان يكون له علاقة شخصية بكلمة الله، وان يدرسها في روح الصلاة، لا يقراءها لمجرد التصفح، ولكن يقراءها بروح الحكمة والاعلان، منتظر تجلي المسيح في وسط الكلمة لكي يفتح الرب امامه معرفة حقيقة لشخصه، فتصير العلاقة مع الله من هذه اللحظة علاقة شخصية قائمة بين النفس والله، بدون وساطة؛ حينها تصير النفس والله منسجمان بل ويقول الكتاب: وَأَمَّا مَنِ الْتَصَقَ بِالرَّبِّ فَهُوَ رُوحٌ وَاحِدٌ (1كو 6: 17)، فالحكمة تقود النفس في الطريق وتعلمها وترشدها دائماً، ودائماً ما تنادي وتنتظر من يسمع صوتها فتعلمنا كلمة الله ان: فَتْحُ كَلاَمِكَ يُنِيرُ يُعَقِّلُ الْجُهَّالَ. (مز119: 130).

3- الاستنارة:
مُسْتَنِيرَةً عُيُونُ أَذْهَانِكُمْ، لِتَعْلَمُوا مَا هُوَ رَجَاءُ دَعْوَتِهِ، وَمَا هُوَ غِنَى مَجْدِ مِيرَاثِهِ فِي الْقِدِّيسِينَ، 19 وَمَا هِيَ عَظَمَةُ قُدْرَتِهِ الْفَائِقَةُ نَحْوَنَا نَحْنُ الْمُؤْمِنِينَ، حَسَبَ عَمَلِ شِدَّةِ قُوَّتِهِ (افسس 1: 18 - 19)

يقول القديس أغسطينوس: يحوي القلب العيون التي تنظر الله.. إنها تستنير الآن بالإيمان، الأمر الذي يناسب ضعفها، أما فيما بعد فتستنير برؤية الله إذ تكون قوية. "فإذًا.. ونحن مستوطنون في الجسد فنحن متغربون عن الرب، لأننا بالإيمان نسلك لا بالعيان" (١ كو ٥: ٦، ٧) [4]

يقول القديس غريغوريوس النزينزي: الاستنارة وهي المعمودية.. هي معينة الضعفاء.. مساهمة النور.. إنتفاض الظلمة. الاستنارة مركب يسير تجاه الله، مسايرة المسيح، أُس الدين، تمام العقل! الاستنارة مفتاح الملكوت واستعادة الحياة.. نحن ندعوها عطية، وموهبة، ومعمودية، واستنارة، ولباس الخلود وعدم الفساد، وحميم الميلاد الثاني، وخاتمًا، وكل ما هو كريم [5]

الاستنارة هي المعمودية حيث ننال في المعمودية هبة الروح القدس ونثبتها خلال الميرون المقدس، والاستنارة هي عمل اساسي يعمله روح الله فينا، وكما ذكرنا سابقاً روح الله ينقل ما للمسيح، ويذكرنا بكل ما قاله لنا، فان كنا لا نعرف ما قاله المسيح، فكيف للروح ان يذكرنا به؟! لذلك تعلمنا كلمة الله: سِرَاجٌ لِرِجْلِي كَلاَمُكَ وَنُورٌ لِسَبِيلِي. (مز 119: 105)، اي ان فعل الاستنارة هو فعل صريح يبدء من المعمودية ويكمل خلال العمر كله ولكن دعامة الاستنارة وغذائها هو كلمة الله، الذي من خلاله تسمو النفس من مجد الي مجد كما من الرب الروح.

ومتي استنارة النفس ودخلت في الحضرة الالهية، وشبعت من الكلمة، يتحول التجلي في حياتها من مجرد تجلي الكلمات بالايمان كما يقول القديس اغسطينوس الي مستوي اخري من التجلي هو التجلي بالعيان، اي الرؤيا الالهية، فيه تلتقي النفس مع عريسها، في سر لا ينطق بيه، فيه يعلن الله عن ذاته كما في جبل التجلي لتميذه، وتصل النفس الي حالة من البهجة والفرح الروحي، وتكتفي بعريسها وتترك كل ملذات العالم الفاسد، وتقول مع أغسطينوس القول المشهور: جلست علي قمة العالم حينما شعرت في نفسي انني لا اخاف شىء ولا اشتهي شىء.

لان شهوة النفس ستتحول الي الرب يسوع، ومن هنا يبدء الرب يسوع في ان يعرف النفس علي اسرار الملكوت، ويفتح الذهن ليفهم الكتاب كما لم يفهم من قبل، وتسبح النفس في الرؤيا، ويزين الرب يسوع القلب بالمحبة الالهية، وتظهر ثمار المحبة سريعاً فيعطي النفس موهبة حسب قياس قامة مليء المسيح.

4- صلاة ليتورجيا علي روح الحكمة والاعلان والاستنارة:
ابصالية واطس علي يوم الجمعة
تقال هذه الابصالية في تسبحة نصف الليل ليوم الخميس وتتكلم عن القوة التي اعطاها الرب يسوع للمؤمنين ومواهب الروح القدس وترك الاهتمامات العالمية ويلتصق بالرب.

كلماتها:

بالحقيقة قد تقدمت إلى رأس عظيم هو اسم الخلاص الذى لربنا يسوع المسيح.
ربنا يسوع المسيح قد أعطى علامة لعبيده الذي يخافونه لكي يهربوا من وجه القوس.
ربنا يسوع المسيح قد أعطى علامة لعبيده الذين يخافونة لكي يسدوا أفواه الأسود.
ربنا يسوع المسيح قد أعطى علامة لعبيده الذين يخافونه لكى يطفئوا قوة النار.
ربنا يسوع المسيح قد أعطى علامة لعبيده الذين يخافونه لكى يخرجوا الشياطين.
ربنا يسوع المسيح قد أعطى علامة لعبيده الذين يخافونه لكى يتسلطوا على أعداهم.
ربنا يسوع المسيح قد أعطى علامة لعبيده الذين يخافونه أن يشفوا كل مرض.
من أجل هذا نمجد ربنا يسوع المسيح مع أبيه الصالح والروح القدس
وهذا هو اسم الخلاص الذى لربنا يسوع المسيح وصليبه المحى الذى صلب عليه.
طوبى للإنسان الذى يترك عنه هذا العمر واهتماماته المملوءة تعب القاتلة للنفس.
ويحمل صليبه يوما فيومًا ويلصق عقله باسم الخلاص الذى لربنا يسوع المسيح.
يفرح قلبنا ويتهلل لساننا إذا ما تلونا اسم الخلاص الذى لربنا يسوع المسيح.
وإذا ما رتلنا فلنقل بلذة يا ربنا يسوع المسيح اصنع رحمة مع نفوسنا

الهوامش:
2- الكنوز في الثالوث 20 - للقديس كيرلس الكبير
3- تفسير رسالة افسسس للقمص تادرس يعقوب ملطي
4- Ser. on N.T. 3: 6
5- الحب الإلهي - القمص تادرس يعقوب ملطي، الإسكندرية، 1967، ص ٨٥٥ – ٨٥٦.

رابط مختصر للمقالة: https://goo.gl/jMtXWc

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة