كيف نكرس أوقاتنا لله؟



1- التكريس اختيار شخصي وليس فرضاً:
يقول احد اباء البرية: "أنه يلزمنا في كل حالة ألا ننظر إلى العمل بل إلى نية الفاعل، ولا نسأل ماذا يفعل الإنسان بل لأي غرض يصنع هذا، حتى اننا نجد البعض يُدان عن أفعال جاءت بنتائج صالحة، بينما آخرون يصلون إلى أعالي البر رغم استخدامهم لأمورٍ في ذاتها تستحق اللوم. في الحالة الأولى نجد أن النتائج الصالحة التي لأعمالهم لا تفيدهم شيئًا لأنهم فعلوها بنية شريرة، ولم تكن إرادتهم تحقيق الصلاح، إنما جاءت النتائج ضد ما قصدوه، وفى نفس الوقت لا تضر نيتهم هذه الآخرين"[1]

من منا لم يفكر في يوم في التكريس علي المستوي الشخصي (اي تكريس وقت للصلاة او بعد الاموال للصدقة او غيرها من الامور المختلفة)، ولكنه لم يكمل تكريسه؟! في الواقع ليس الخطر فيما نوعد به كما اوضح القديس يوسف احد اباء البرية ولكن الخطاء في النيه التي ننفذ بها هذا الوعد، فكثيراً ما نقدم تكريساً لله من جهة الوقت كمثال، ولكننا نختلس منه "َاخْتَلَسَ مِنَ الثَّمَنِ"[2]، فيصير تكريسنا ليس كاملاً، نحن هنا لا نختلس من انفسنا شيء، ولكن في الحقيقة نحن نختلس ما لله!

فقد كذب حنانيا وسفيرة لا علي بطرس او واحد من الرسل ولكنهم كذبوا علي روح الله، والاسئلة التي طرحها القديس بطرس تضعنا في موضع الحيرة لانها تسأل كل منا! "أَلَيْسَ وَهُوَ بَاق كَانَ يَبْقَى لَكَ؟ وَلَمَّا بِيعَ، أَلَمْ يَكُنْ فِي سُلْطَانِكَ؟ فَمَا بَالُكَ وَضَعْتَ فِي قَلْبِكَ هذَا الأَمْرَ؟ أَنْتَ لَمْ تَكْذِبْ عَلَى النَّاسِ بَلْ عَلَى اللهِ!!!"[3]

اليس وهو باق كان يبقي لك؟! الوقت في كل الاحوال هو ملكك فمن الجيد الا تكرس البعض لله وتكن صادقاً مع نفسك، علي ان تكرس البعض من الوقت وتحنث فيه! كثيراً منا يحضر قداسات الكنيسة وقد يكون بشكل يومي، ولكن هل فعلاً يكون وقت القداس مكرساً بالكامل لله؟! هل يكون كل انشغالك في القداس بان تتحد بالمسيح وتستعد استعداد كلي لهذه الافخارستيا العظمة التي سوف تنالها، هل عندما يصرخ الكاهن "اين هي قلوبكم" في صلاة الانافورا يكون بالفعل صراخك داخلياً عميقاً "هي عند الرب؟"، هل سلوكك الذي تسلك ظاهرياً ام عميقا في داخلك؟!

كل هذه الاسئلة علي كل مؤمن امين في حياته مع الله ان يسالها لنفسه، لان "الروح القدس لا يعمل في السطح ولا من الظاهر، إنه يعمل في الداخل وفي الخفاء جداً، لذلك إذا أردنا أن نتتبع عمل الروح القدس في حياتنا، يلزمنا أن نتعمق كل شيء، نتعمق فكرنا، نتعمق ضميرنا، نتعمق دوافع سلوكنا، نتعمق رغباتنا وشهواتنا الطيب منها والرديء، نتعمق صلواتنا وصومنا ودموعنا، نتعمق خدمتنا، وأخيراً نتعمق حبنا لله والناس."[4] نعم في الحقيقة ما سأله القديس بطرس لحنانيا، لم يكن مجرد سؤال لحنانيا ولكنه كان سؤالاً لاعماق كل واحد في الكنيسة حتي ان القديس لوقا كاتب سفر الاعمال يقول "فَصَارَ خَوْفٌ عَظِيمٌ عَلَى جَمِيعِ الْكَنِيسَة"[5]

2- من اين تاتي رغبتنا العميقة والحقيقة في التكريس:
"حينما تبدو لك أمور إخلائه صعبة القبول تعجب بالأحري من عظم محبة الابن لنا، لأن ما تعتبره غير لائق به، هذا قد فعله بإرادته من أجلك، فقد بكي بشرياً لكي يمسح دموعك، وأنزعج تدبيرياً تاركاً جسده ينفعل بما يناسبه لكي يملأنا شجاعة، ووصف بالضعف في ناسوته لكي ينهي ضعفك، وقدم بكثرة طلباتٍ وتضرعاتٍ للآب لكي يجعل أذن الآب صاغية لصلواتك"[6]

في الحقيقة لا يمكن باي شكل من الاشكال ان ينبع من الداخل تكريساً ما لم يكرس الداخل اولاً لله، فمن ضمن الاسئلة التي سألها القديس بطرس لحنانيا "يَاحَنَانِيَّا، لِمَاذَا مَلأَ الشَّيْطَانُ قَلْبَكَ لِتَكْذِبَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ وَتَخْتَلِسَ مِنْ ثَمَنِ الْحَقْلِ؟"[7]، فقد ملأ الشيطان قلب حنانيا، فماذا لو كان قلب حنانيا مكرساً بالكامل لله من الاعماق؟! ببساطة ان كان القلب مكرساً ما كان حنانيا وسفيرة فعلا هذا!

لذلك ان اردنا ان نكرس شيء ما للرب، فمن الافضل ان نبدأ بتكريس اعماقنا اولاً، اي ان نسلم القلب بالكامل للروح القدس، الذي بدوره سيعمل فيه وبقوة حتي يكرسه بالكامل لله في علاقة سنيرجيا والسينرجيا (synergy) تعني أنّ الواحد الكامل أكبر من أجزائه، أيّ أنّ نتيجة العمل المشترك والتعاون بين عاملين أو أكثر لتحقيق هدف معيّن تكون أقوى وأفضل من مجموع نتائج عمل كلّ عامل يعمل وحده على تحقيق الهدف نفسه، فالروح القدس يساعد النفس في تكريس القلب بالكامل له، ولكن لابد للنفس اولاً ان تذهب للروح كما ذكرنا في السابق فاحصة اعماقها بكل صدق.

وما سيدفعنا الي هذا التكريس هو ما فعله المسيح من اجلنا، فكما يعلمنا القديس بولس الرسول، "وَهُوَ مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ الأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لاَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَامَ"[8]، فالمسيح اذ قدم نفسه لاجلنا مظهراً في ذلك عمق محبته، اوصانا وصية وحيدة وهي ان نحب نحن بعضنا بعضاً ونصلب لاجل بعضنا بعضاً وما هو التكريس الحقيقي الا حركة حب تحدث من الاعماق في اتجاه الله، فيصرخ القلب بانه يريد ان يقدم كل ما له لله هنا يبدأ التكريس الحقيقي، فيقدم الانسان وقت حقيقي للعبادة ووقت حقيقي للدراسات الروحية، ويتمتع بنعمة وشركة الروح القدس الحقيقية ويصير بالحقيقة مسيحاً "اي مكرساً" لله بكامل.

يقول القديس يوحنا ذهبي الفم "بهذا الحب فضًل أن يُحسب ضمن الرُتب الوضيعة على أن يُحسب ضمن أعظم النبلاء بدونه. كان العقاب الوحيد في نظره أن يتجرًد من هذا الحب، فذاك هو الجحيم نفسه، والتأديب والشر الأبدي. على عكس ذلك فإن امتلاك محبة المسيح هي السماء، وهي الحياة، وهي العالم كله، وهي أن يصير ملاكًا، وهي الفرح الحاضر، والفرح المقبل، وهي أن يصير ملكًا، وهي الوعد، وهي الصلاح الأبدي."[9]

هوامش:
1- المناظرة السابعة عشر للقديس يوحنا كسيان - للأب يوسف 11
2- راجع (اعمال الرسل 5: 2)
3- راجع (اعمال الرسل 5: 4)
4- الاب متي المسكين - مع الروح القدس في جهادنا اليومي ص5
5- راجع (اعمال الرسل 5: 5، 11)
6- الدفاع عن الحروم الاثني عشر ضد ثيودوريت - للقديس كيرلس الكبير
7- راجع (اعمال الرسل 5: 3)
8- راجع (كورينثوس الثانية 5: 15)
9- يوحنا ذهبي الفم - Sermons for Christmas and Epiphany (ACW), 12:1

رابط مختصر للمقالة: https://goo.gl/bgWBqo

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة