المفهوم الارثوذكسي للعبادة حسب فكر أباء الكنيسة




1- تعريف العبادة حسب تعليم الكتاب المقدس وفكر الاباء:
اعبدوا الرب بفرح. ادخلوا الى حضرته بترنم‎. (مز 100: 2)

["اعبدوا الرب بفرحٍ". كل عبودية مملوءة مرارة. كل من يرتبط بنصيب من العبودية هم عبيد ساخطون. لا تخافوا من عبودية هذا الرب، فإنه لا يوجد تنهد هناك، ولا سخط ولا نقمة. لا يوجد من يطلب أن يُباع لسيد آخر، إذ هي خدمة عذبة، لأننا جميعًا مخلَّصون.

إنها أيها الإخوة سعادة عظيمة أن تكون عبدًا في هذا البيت العظيم، وأن كنت في قيود. لا تخافوا أيها العبيد المقيدون، اعترفوا للرب، انسبوا هذه القيود لاستحقاقكم، اعترفوا في سلاسلكم، إن أردتم أن تحولوها إلى حلي... فأنت عبد وحر، عبد، لأنك خُلقت هكذا. وحر، لأنك محبوب من الله الذي خلقك. نعم أنت حر، لأنك تحب الذي صنعك. لا تخدم بقنوطٍ، فإن تذمرك لا يحررك من الخدمة، بل يجعلك عبدًا شريرًا. أنت عبد للرب، أنت حر في الرب. لا تطلب أن تُعتق فتترك بين من يحررك][1] كان هذا ما قاله القديس العظيم انبا انطونيوس عن العبادة بكونه عابد حقيقي، قدم لنا مفهومً رائع عن العبادة في المسيحية.

العبادة حسب المفهوم اللفظي الكتابي تظهر وتتجلي في انجيل مار معلمنا يوحنا، في مقابلة السامرية مع الرب يسوع، حين سألت هي عن السجود؛ هل هو في اورشليم ام في جبل جرزيم؟!

وفي الواقع ان الفعل اليوناني لكلمة ساجدون (προσκυνητής) وتنطق "pros-koo-neh'-o " والتي جئت في (يو 4: 23) لها معني رائع قد يدلنا علي المفهوم الحقيقي للعبادة، فالكلمة تعني العابد اوالعاشق![2]

وفي هذا يقول القديس جيروم [ العابدون الحقيقيون يعبدون الآب، لا في أورشليم، ولا علي جبل جرزيم][3] نلاحظ ان القديس جيروم استخدم فعل العبادة ولم يستخدم فعل السجود كما جاء في اللغة العربية ترجمة فانديك.

وهنا نفهم ان العبادة حسب انجيل يوحنا هي حالة حب قلبي"وليست حالة من عبودية القيود كما وضح انبا انطونيوس"، يتجه فيها العابد اتجاه المعبود في حالة من العشق، مقدماً فيها قلبه كذبيحة خلال عمل الروح القدس في داخله، لذلك التزمت هذه العبادة بان تقدم "بالروح والحق" حسب (يو 4: 23).

ولكن الكتاب المقدس لم يكتفي بهذا التعبير عن العبادة، لكنه اخذ في عاتقه توضيح المعني الجوهري للعبادة علي أنها - أداء خدمة – وعلي هذا نجد في (رو 12: 11) [غير متكاسلين في الاجتهاد. حارّين في الروح. عابدين الرب]، ان الفعل "عابدين" يأتي في اليونانية (δουλευοντες) تنطق " doul-yoo'-on-tes" من الفعل اليوناني (δουλεύω) ينطق " doul-yoo'-o" لنجد انه يعني أداء خدمة[4]

وان ربطنا بين العبادة بكونها حالة من العشق "حسب مفهوم انجيل يوحنا" وايضاً أداء خدمة "حسب مفهوم رسالة رومية" نجد أنفسنا امام المعني الصريح للعبادة المسيحية.

العبادة المسيحية هي تقديم خدمة أتجاه الله بدافع الحب الالهي او العشق، مستخدمين الجسد كوسيلة لأداء الخدمة او للتعبير عن الحب كمثل (السجود)، ليكون كذبيحة حية مرضيه لهذه العبادة (رو 12: 1).

2- الليتورجيا هي العبادة المسيحية:
بعد ان تعرفنا علي العبادة بكونها لا تمَت بصلة الي المعني العربي لكلمة (عبادة)، وفهمنا المعني الاصيل للعبادة حسب فكر الكتاب المقدس في انجيل يوحنا كحالة من العشق، ورسالة رومية كأداء خدمة، فلا يمكن ان يخرج مفهوم العبادة في الحياة المسيحية عن كونها ليتورجيا!

الفعل اليوناني (λειτουργειν) تنطق " la-tro-gon" هذا الفعل الذي استخدم في العهد القديم في الترجمة السبعينية كما جاء في (عد 8: 22) [وبعد ذلك اتى اللاويون ليخدموا خدمتهم في خيمة الاجتماع امام هرون وامام بنيه. كما امر الرب موسى عن اللاويين هكذا فعلوا لهم] وترجم في العربية "خدمة" ولكن هذا المصطلح هو من مقطعين (λέως ) تنطق "La- oc" أي شعب و (εργον ) تنطق "Ar-gon" أي عمل ليكون المعني الصريح لكلمة ليتورجيا هو العمل الشعبي ويقابله في العبرية (יִגאָל) وينطق ""Yig-awl بمعني اداء خدمة دينية![5]

أما في البيئة اليونانية فقد كان المصطلح يكتسب أهمية دينية، وكان يعنى عبادة عامة علنية أو خدمة الآلهة[6] أيضًا في العهد الجديد أُستخدم المصطلح ليعنى تتميم طقس مقدس أو اتمام خدمة لانتشار كلمة الله كما جاء في (اع 13: 2) [‎وبينما هم يخدمون الرب ويصومون قال الروح القدس افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما اليه‎]، والتي اصبح يعبر عن مفهوم العبادة المسيحية عبر الاجيال.

من هنا نفهم ان الليتورجيا هي الخدمة التي يقدمها الشعب لله، اذ يقدم فيها جسده كذبيحة حيه مرضيه، معبراً بذلك عن حبه او عشقه في صورة سجود او خضوع لله، لتكن الليتورجيا هي أسمي صور العبادة المسيحية.

3- الليتورجيا والطقس:
في تعريفنا لليتورجيا ذكرنا ان العابد او بتعبير اخر العاشق يعبر عن عشقه عن طريق اداء خدمة لها مظهر خارجي مثل السجود، وكانت هذه الصور او التعبيرات الخارجية فردية او جماعية تتم حسب أتفاق بين الجماعة لأداء العبادة بشكل لائق.

ونجد ان كل عبادات الكتاب المقدس، تمت حسب ترتيب له جزور في النصوص المقدسة، فمعظم صلوات الانبياء في العهد القديم وايضاً قديسوا العهد الجديد مستمدة من سفر المزامير، فأعتبر سفر المزامير كمرجعية لأداء الصلاة الحقة، وكذلك في تقديم الذبائح، نجد ان هناك أنبياء مثل نوح او أيوب قدموا ذبائح وبنو مذبح ولم يكن هناك نص مقدس ليعرفهم كيف يقدموا الذبيحة بهذا الشكل، ولكن من الواضح انهم استلموا هذا الترتيب خلال التسليم الشفاهي عبر الاجيال من ادم حتي وصل اليهم، واعتبر هذا التسليم الشفاهي كتطبيقات وصور بدائية لحقائق سماوية لم تكن قد أعلنت بعد، اذ كانوا هؤلاء يمهدون لأظهار السر او الاعلان الحقيقي عن الترتيب السماوي لليتورجيا.

وفي هذا تكلم القديس بطرس الرسول قائلاً: [الذين أعلن لهم انهم ليس لانفسهم بل لنا كانوا يخدمون بهذه الامور التي أخبرتم بها انتم الآن بواسطة الذين بشروكم في الروح القدس المرسل من السماء التي تشتهي الملائكة ان تطّلع عليها] (1بط 1: 12)

فقد كان الجميع يطلب طقساً منذ البدء للوصل الي الله واداء الذبيحة علي أكمل وجه لتكن مقبولة لدي الله، اذ كانت كل ذبائح العهد القديم هي اشارة او ظل الي الذبيحة الحقيقية الوحيدة اي ذبيحة الابن الوحيد الرب يسوع علي الصليب! (عب 10: 1)، ومن الواضح ان هذا التسليم الشفاهي وصل نتيجة لما حدث في القصة الشهيرة لاول ذبيحة قدمت علي مستوي التاريخ، وهي ذبيحة هابيل مقابل ذبيحة قابيين (تك 4)، فقد قبل الله ذبيحة هابيل (الذبيحة الدموية)، ورفض ذبيحة قايين (ذبيحة ثمار الارض)، وضعاً بهذا اول طقس لتقديم الذبيحة واداء الليتورجيا علي مستوي التاريخ.

جاء في الكتاب المقدس في (1كو 14: 40) [وليكن كل شيء بلياقة وبحسب ترتيب]، منادياً الرسول بولس بهذا ان نفعل كل شىء بترتيب، وجائت الكلمة في الاصل اليوناني (τάξις) تنطق " tax'-is" وهي تعني ترتيب ثابت لشىء معين مع مرعاة تحديد الوقت.[7]

وحسب هذا المعني نفهم ان اي لتيورجيا كانت لابد لها من طقس تتبعه حسب تعليم الكتاب، وبدون طقس تعتبر هذه الليتورجيا غير مقبولة لدي الله! [و نطلب اليكم ايها الاخوة انذروا الذين بلا ترتيب. شجعوا صغار النفوس. اسندوا الضعفاء. تأنوا على الجميع.] (1تس 5: 14)

علي ان يكون هذا الطقس مرتب من قبل الله كما وضحنا في قصة ذبيحة هابيل وقايين، اذ قد وضح الله بقبوله لذبيحة هابيل انه يقبل الذبيحة الدموية ويرفض ذبيحة الثمار كشكل بدائي او ظل لليتورجية كنيسة البرية.

واذا ربطنا الليتورجيا مع الطقس يتضح لنا اكثر فأكثر المعني الحقيقي للعبادة المسيحية بكونها ليست مجرد خدمة يقدمها العاشق لله مقدماً فيها جسده كذبيحة، بل ايضاً خدمة تتم حسب ترتيب ثابت وفي اوقات محددة يتم تحديدها من قبل الله نفسه، خلال ما اعلنه بالروح القدس لانبياءه ورسله القديسين.

الهوامش:
1- On Ps.100 (99).، تفسير المزمور 100 للقمص تادرس يعقوب ملطي.
2- ترجمة بين السطور للاب بولس فغالي ص449، Greek – English Lexicon of the new testament pa 548
3- Letter 58:3.، تفسير المزمور 100 للقمص تادرس يعقوب ملطي.
4- Greek – English Lexicon of the new testament pa 157
5- Greek – English Lexicon of the new testament pa 375
6- أرسطوAr…stot. Politik£ VII, 9.
7- Greek – English Lexicon of the new testament pa 614

رابط مختصر للمقالة: https://goo.gl/xP07z5

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة

انت في اقدم موضوع