صلاة دانيال كصلاة ارثوذكسية للتوبة، هذه الصلاة كم هي قوية، فهي صلاة تلمس قلب الله المحب، هي هي صلاة العشار الذي وصفته كلمات الانجيل : وَأَمَّا الْعَشَّارُ فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ، لاَ يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ، بَلْ قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ قَائِلاً: اللّهُمَّ ارْحَمْنِي، أَنَا الْخَاطِئَ (لوقا 18: 13)، هي ايضاً صلاة الروح المنسحق الذي يتكلم عنها المرتل في المزمور الخمسين "حسب الترجمة السبعينة"، وهي الصلاة التي تفتح لنا تعزيات السماوات وتشعل فينا عمل الروح الناري مرة اخري، بعدما تذوب قلوبنا في محبة العالم الفاسد.
ما أعظمها لغة يا أخوتي، فالصلاة مع الصوم هي قوة عظيمة، اذ قال الرب يسوع: فَقَالَ لَهُمْ: «هذَا الْجِنْسُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ». (مرقس 9: 29)، ولكن اي صلاة واي صوم يطلبه منا الرب؟!
الا يطلب منا الرب صلاة مثل تلك التي صلاها دانيال لاجل شعبه في توبة وتواضع، وتلك الاخري التي صلاها يونان في بطن الحوت، وغيرها من الصلوات القوية الممتلئة بالتواضع والقلوب المنكسرة؟!
1- كيف نقتني هذه الصلاة:
هذه الصلاة واي فضيلة اخري هي عطية من الرب الروح، ينقلها لنا عن الرب يسوع نفسه، فالصلاة التي صلاها كل هؤلاء العظام، هي في الاساس نابعة عن الرب يسوع نفسه، واي صلاة تخرج عن الرب يسوع "اي لا يكون الرب يسوع مركزها" فهي صلاة ذاتية نفسية ليس لها اي قيمة روحية، ولكن ان كان الرب يسوع هو مركزها، ستجد الصلاة قمة في الاتزان وقمة في التواضع، لا بأرتفاع ولا بدمدمة، بل صلاة لطيفة علي النفس ومعزية للروح، ومقبولة جداً لدي الله الاب!
وقد علمنا الرب يسوع عن هذا اذ قال: قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي. (يوحنا 14: 6)، وفي هذا العدد وضع لنا الرب يسوع أساساً لكل صلاة، وكل عبادة حقيقية بالروح والحق.
وكنيستنا العظيمة ايضاً تعلمنا هذا في ليتورجيتها[1]، ففي لتيورجية القداس الكيرلسي نقول لحن "ارحمنا" وهو لحن نسكي من الدرجة الاولي، في هذا اللحن نقول: "..يصرخون اليك وبك معك الي الاب قائلين ارحمنا.."، ما أعمق هذه الكلمة، ولكن ما اكثر الحق الذي تحتويه، فهي تصف لنا بكل هدوء سر العبادة في الليتورجيا الكنيسة، وان هذا السر هو بك ومعك!
نعم يا أخوتي ان الرب يسوع كأخونا البكر[2]، فهو ابن للاب بالجوهر ونحن اولاد لله بالتبني، فهو بكرنا ورأسنا ونحن جسده واخوته، فحينما نصلي يا اخوة لا نصلي من ذواتنا ولكننا نصلي في المسيح يسوع وبالمسيح يسوع كما شاهدنا في الليتورجيا، هذا هو سر الصلاة القوية، هي صلاة تختفي فيها الذات ويظهر فيها الرب يسوع بقوة، لذلك لا يوجد مجال للمشاعر النفسية الشيطانية ولا مجال حتي لتدخل ابليس في صلاواتنا.
ولعل اقوي هذه الصلاوات هي صلاة المزامير التي رتبتها كنيستنا في ليتورجيا بديعة نجدها في كتاب يسمي بالاجبية، ورتبت الكنيسة هذه الصلوات لكي نصلي كل حين في المسيح يسوع وبالمسيح يسوع، لانه ببساطة كان الرب يسوع نفسه يصلي هذه الصلوات بكونه "يهودي"، وهناك بعض المزامير التي لا يمكن ان يصليها الا الرب يسوع المسيح نفسه، ولا تجوز لاي شخص اخر، حتي حين كتبها دواد النبي والمرتل، كتبها وهو مساق بروح النبوة ناظراً الي عهداً جديداً لا بدم تيوس وعجول ولا بيد انسان، ولكن بحمل بلا عيب اذ رأي المسيح نفسه معلقاً علي الخشبة، وراي الدم وهو يطهر خطايا العالم، وراي الرب يسوع وهو في الهاوية ينتصر ويجذب اليه النفوس، ويصير الرب الملك علي خشبة!
ولكن هل يمكن ان اصلي في المسيح يسوع او بالمسيح يسوع وانا لم اقبله اصلاً، واؤمن به أيمان هامشي سطحي فريسي ميت؟
فالحقيقة يا اخوة، لا يمكن ان اصلي في المسيح يسوع او بالمسيح يسوع ما لم اؤمن به أيمان حقيقي عامل بالمحبة، أيمان يري في أعمالي لا في كلماتي فقط، ايمان حي يجذب النفوس الضالة الي الرب يسوع، ويقود حياتي ونفسي بالكمال، أيمان عظيم كأيمان أثناسيوس الرسولي، والشهيد العظيم مار جرجس، فهؤلاء هم سحابة شهودنا، وسوف يشهدوا علينا في الوقت الذي فيه نلتمس عذراً لهروبنا من أعمال البر لسبب ثقلها!
اذا فلا مجال للوصول الي هذه الصلاة ما لم نتقدم بالتوبة القلبية اولاً، ونخلع عنا كل ثقل العالم ومجده الباطل، ليصير ايماننا لا أيماناً بالفم فقط، بل ايمان بالفعل، فتتحول كل كلمات الكتاب المقدس الي كلمات محفورة في قلوبنا، حينا تسهل لنا فرصة الدخول علي الاقداس علي حساب دم الرب يسوع، الذي قدم نفسه فدية لاجلنا، لكي لا نعيش بعد لشهواتنا ولا للعالم ولا للمال، بل نحيا في كل حين لاجل مجد اسمه القدوس، فينقل لنا الروح القدس عطية صلاة التوبة الحقيقة، التي سوف نقدمها يومياً في المسيح يسوع وبالمسيح يسوع، وحينها تنطلق حياتنا نحو محبة الله الاب في المسيح يسوع، وتصير حياتنا نوراً للعالم وملحاً للارض!
2- الايمان الحقيقي كأساس لصلاة التوبة الارثوذكسية في الفكر النسكي لأباء الكنيسة:
هم الذين قلوبهم قاسية، مدمنون علي أفتعال الخطايا فيجلب عليهم الله الرحوم مصاعب وشدائد حتي تتنبه سرائرهم ونياتهم لكثرة ما يأتي عليهم، فيندمون ويرجعون ويستعدون ويدخلون الي هذه الدعوة ويتوبون من كل القلب ويقبلون المواعيد[3]
هذه الكلمات العظيمة التي قالها القديس انبا انطونيوس وهو في قيادة من روح الله، تعلمنا ان الايمان الحقيقي الذي له ثمرة أعمال هو أساس لصلاة التوبة، فقد قدم الندم والرجوع والاستعداد والدخول في الدعوة علي التوبة، لانه ان دخلنا في التوبة قبل في هذه الاشياء جميعاً، فستكون توبتناً توبة هامشية، اي غير حقيقة بالمرة لان اساسها غير ثابت، فكثيراً ما حولنا التوبة بشتي الطرق ولكننا نفشل ونفشل لاننا ببساطة وكتعبير القديس أنبا انطونيوس: "مدمنون علي أفتعال الخطايا".
هذه الخطوة لا يتاخذها الانسان بنفسه، لكنه يفعلها جانباً الي جانب مع الروح القدس، فالروح القدس يبكت علي اثم وعلي خطية، ويجذبنا الي الابن يسوع اذ يشهد عنه، ويجعلنا مستعدين الي دعوتنا، ويدخلنا فيها ايضاً.
فقد فهم أباء الكنيسة عمل الروح القدس مع النفس علي انها علاقة سينيرجيا[4] اي علاقة عمل مشترك بين النفس والروح القدس ولو لم تعمل النفس لن يعمل الروح القدس معها، والعكس صحيح، لذلك يا اخواتي فلابد من أن ننتبه الي أيماننا، هل هو أيمان حقيقي مقدس مبني علي صخرة حقيقية وهي شركة الروح القدس، ام هو أيمان أفتعالي وراثي قد ورثناه علي اجدادنا اذ قد ولدنا مسيحين!!!
ولكن من مراحم الله انه لا يتركنا، بل يرفع يديه قليلاً عنا فتظهر الضيقات والمشاكل وكرب العالم، حتي يجذبنا الي الندم والرجوع، وأستعادة الشركة مع الروح القدس، لكي يعود هذا الروح الناري، فيقدسنا مرة اخري، ويرجعنا الي حضن الاب في الابن يسوع المسيح، ويجعلنا علي الصورة الاولي التي للابن يسوع مرة اخري اي صورة الانسان الجديد.
وهذا ما ظهر في صلاة دانيال وما حدث في السبي لشعب الله، وكذلك الكثير من القصص في الكتاب المقدس التي توضح لنا تعاملات الله مع شعبه بهذه الطريقة، التي تطورت في العهد الجديد بعد الصليب وصارت اكثر رحمة لان الرحمة والحق تلاقيا علي الصليب وقد حمل كل الامنا في جسد بشريته.
3- الرجوع لأسترداد طبيعتنا الاصلية في فكر الاباء المدافعين:
حينما تبدو لك أمور إخلائه صعبة القبول تعجب بالأحري من عظم محبة الابن لنا، لأن ما تعتبره غير لائق به، هذا قد فعله بإرادته من أجلك!!!
فقد بكي بشرياً لكي يمسح دموعك، وأنزعج تدبيرياً تاركاً جسده ينفعل بما يناسبه لكي يملأنا شجاعة، ووصف بالضعف في ناسوته لكي ينهي ضعفك، وقدم بكثرة طلباتٍ وتضرعاتٍ للآب لكي يجعل أذن الآب صاغية لصلواتك[5]
كم تبهرني هذه الكلمات للقديس العظيم البابا كيرلس الكبير، هي كلمات ناتجة عن حياة روحية قوية جداً، يشهد لها المسيح نفسه، ما أعجب ربنا يسوع المسيح فعلاً، فقد قد ذاته لاجلنا لكي نصير نحن بر الله فيه!
التوبة يا أخواتي هي حالة من الاسترداد تحدث داخل الذهن اولاً، فيها يترك الانسان افكار شجرة معرفة الخير والشر ويقبل اليه افكار شجرة الحياة مرة اخري، في هذا الاسترداد تدخل النفس في شركة الروح القدس، منتقلة بذلك من تثقل العالم وقيوده الي حرية مجد اولاد الله.
اللفظة التي استخدمها الكتاب المقدس في للتعبير عنها كانت هي (μετα-μορφουσθε) تنطق ميطا مؤرفؤسيوس أي تغير من طور الي طور وهي تعني تغير في الذهن (νοῦς) ومن هنا جائت الكلمة المشهور ميطانيا المحرفة عن كلمة ميطانوس اي التغير الذي يحدث داخل الذهن وهي الكلمة الاصيلة التي تصف المعني الحقيقي للتوبة.
ولكي يحدث هذا التغير العميق في الذهن يجب علي الانسان ان يتعمق أفكاره ودوافعه ونياته لان [الروح القدس لا يعمل في السطح ولا في الظاهر، إنه يعمل في الداخل وفي الخفاء جداً][6]، فلكي ندرك هذا الروح الناري يجب ان نتعمق انفسنا حتي نصل اليه ونسمع أناته الي يطلقها لنا!
ومتي دخلت في الشركة مع الروح القدس، تبدء علي الفور بالتغيير تدريجياً وبصورة خفية عميقاً جداً، وخلال هذا التغير يبدء الروح القدس، بأن يعلن للنفس عن الرب يسوع فيدخلنا في شركة مع الابن ايضاً وفي الابن وبالابن تبدء صلواتنا التي اولها صلاة التوبة، التي يصليها فينا الابن يسوع نفسه كشفيع ورئيس كهنة عنا امام الاب، وبالتالي ينقلنا الابن فندخل في شركة الاب ايضاً ومن هنا ننطلق في شركة مع الثالوث القدوس، تدفعنا لكي نتغير ونسترد طبيعتنا المفقودة التي هي في الاصل أيقونة الله!
4- صلاة ليتورجيا كمثال علي صلوات التوبة في المسيح يسوع وبالمسيح يسوع :
أبصالية الاحد الثانية - أيكوتي أنسوك
كلماتها:
طلبتك من عمق قلبي يا ربي يسوع اعنى
حل عني رباطات الخطية يا ربي يسوع المسيح اعنى
كن لى معينا لكي اخلصنى. يا رب صلاحك فليدركنى سريعا يا ربي
ظلل على تحت ظل جناحيك يا ربي
في ستة أيام صنعت جميع الخليقة يا ربي
سبع مرات في اليوم أبارك اسمك يا ربي
ها كل البرية تمجد اسمك يا ربي. لك الربوبية والسلطان يا ربي
اسرع يا إلهى لتخلصني. يا ربي
كل ركبة تجثو امامك يا ربي.
كل لسان معا يبارك اسمك يا ربي. اصرف وجهك عن خطاياى يا ربي
جميع أثامي يا الله امحها يا ربي
انت تعرف أفكاري وتفحص كليتاى يا ربي قلبا طاهرا اخلقه في يا ربي
روحك القدوس لا تنزعه مني يا ربي
أمل سمعك إلى واستجب لى عاجلا يا ربي
قرر لي ناموسا لي طريق عدلك يا ربي ملكوتك يا إلهي ملكوتا أبدية يا ربي
أنت ابن الله أمت بك يا ربي
يا حامل خطية العالم ارحمنى يا ربي
اغفر لي كثرة اثامى يا ربي
كل الأنفس معا تبارك اسمك يا ربي
تانى على ولا تهلكنا سريعا يا ربي
أقوم وقت السحر لأبارك اسمك يا رب. حلو هو نيرك وحملك خفيف يا ربي
في زمن مقبول استجب لي. يا ربي. محبوب هو اسمك القدوس يا ربي
فرق عني كل الابالسة يا ربي. اغرس في ثمرة برك يا ربي
اعطنا سلامتك الحقيقية واغفر لنا خطايانا يا ربي يسوع المسيح اعنى
الهوامش:
1- كلمة ليتورجيا هي كلمة يونانية مكونة من مقطعين لأوس - أرجون وهي تعني العمل الشعبي واستخدمها الاباء الرسل في الكنيسة الاولي لتدل علي خدمة العبادة الجماعية ككسر الخبز اي سر الافخارستيا "التناول".للمزيد راجع هذه المقالة المفهوم الارثوذكسي للعبادة حسب فكر أباء الكنيسة
2- لأَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ، لِيَكُونَ هُوَ بِكْرًا بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ. (رومية 8: 29)
3- كتاب نسكيات الانبا انطونيوس - الانبا متاؤس رئيس دير السريان - ص121 - الرسالة الاولي للانبا انطونيوس
4- السينرجيا (synergy) تعني السينرجيا أنّ الواحد الكامل أكبر من أجزائه، أيّ أنّ نتيجة العمل المشترك والتعاون بين عاملين أو أكثر لتحقيق هدف معيّن تكون أقوى وأفضل من مجموع نتائج عمل كلّ عامل يعمل وحده على تحقيق الهدف نفسه
5- الدفاع عن الحروم الاثني عشر ضد ثيودوريت - للقديس كيرلس الكبير
6- كتاب مع الروح القدس في جهادنا اليومي - الاب متي المسكين - ص4
رابط مختصر للمقالة: https://goo.gl/cRkoGB