الشهادة في القرن الحادي والعشرين


إن الشهيد بسبب حبه للرب يفارق الحياة بكل سرور.. ولذلك نحن ندعو الاستشهاد "كمالاً" ليس لأن الإنسان به يصل إلي تكميل (أي نهاية) حياته مثل الباقين، بل لأنه به يُظهِر كمال فعل المحبة.. ثم أن كان الاعتراف من أجل الله يُعتبر شهادة، فإن كل نفس تسلك بالنقاوة وبمعرفة الله وتحفظ وصاياه فإنها تكون شاهدة (أو شهيدة) بسيرتها وبكلامها، حتي أنها مهما كانت الطريقة التي تفارق بها جسدها فهي تسكب إيمانها عوض الدم طوال حياتها وحتي إلي وقت خروجها. ولذلك قال الرب في الإنجيل: "إن كل من ترك أباً او أماً أو إخوة.. من أجل الأنجيل ومن أجل اسمي" يكون مغبوطاً؛ وهو بذلك لا يشير إلي الاستشهاد العادي بل إلي الاستشهاد بحسب المعرفة، بالسلوك حسب منهج الإنجيل من أجل محبة الرب.[1]

الشهادة الحية بالسيرة:

منذ نعومة اظافرنا ونحن نسمع عن شهداء كنيستنا العظيمة وما قدمته من دماء لتحافظ علي الإيمان ولتشهد للرب يسوع بمحبتها كما سفك هو دمه لأجلها، سفكت الكنيسة أيضاً دمها لاجل المسيح، ونري في الكلمات الجوهرية للقديس أكليمندس السكندري رؤيا اخري للأستشهاد الذي تحتاج اليه الكنيسة في هذا القرن الحادي والعشرين، لا بسفك الدم بل بسفك النفس والشهادة الحسنة امام جميع الناس والسيرة الطيبة التي تقدم المسيح في كل شخص اي شهادة الإيمان كما يقول القديس اكلمندس "فهي تسكب إيمانها عوض الدم طوال حياتها".

هذه النفوس التي كرست قلبها للرب يسوع، لا بالكلام ولا بالشهادة التي تعتمد علي المنظر الخارجي "كالقبور المبيضة من الخارج" بل بالعمل والحق تظهر امام هذا الجيل الصورة الحية للمسيح، هم بالحقيقة مسحاء هذا الجيل، وكل مسيح لابد من أن يصلب وأن لم يصلب ويجلد فلن يصير ابداً مسيحياً! 

فهذه هي مجازة الإيمان، انت تؤمن؟ حسناً تفعل، فهل لإيمانك ثمرة حياة في وسط اسرتك؟ هل لإيمانك ثمر حياة في عملك؟ هل لإيمانك ثمرة حياة مع أخيك المختلف عنك في الرأي والدين والملة؟! ام تري أن ايمانك هو تمسكك الإعمي مثل الفريسين بالعقيدة والطقوس والكتب دون ان تعطي مساحة للروح الناري حتي يعمل في دخلك؛ حتي يظهر قوة هذا الإيمان؟!

لذلك ما أحوج هذا الجيل الي مؤمنون شهداء ليس حسب الجسد بل حسب النفس، قادرين ان يكرسوا حياتهم للرب بالكمال، فيظهر هذا التكريس في سلوكهم وكلامهم وقوتهم وعملهم، ليس في عظاتهم الرنانة التي تجعلنا ندمع احياناً، او نتاثر نفسياً لفترة من الوقت وبعدها ينتهي الامر دون ان نربح شيء! بل في حياتهم التي ننظر اليها فنتمثل بإيمانهم.


الشهادة بالحق:

الإنسان المُلهم من الله يُدين صانعي الانقسام الفارغين من محبة الله، الذين يهتمون بمصلحتهم الشخصية وليس بوحدة الكنيسة، الذين لأتفه الأسباب يُمزَّقون الجسد العظيم والمجيد الذي للمسيح، ويفنونه على قدر ما يستطيعون، الذين يتكلَّمون عن السلام ويصنعون الحروب، الذي "يُصفُّون عن البعوضة ويبلعون العمل" لأنه لا يمكن أن يأتي منهم أي إصلاح ذي قيمة يوازي الخسارة الفادحة الناتجة من الأنقسام.[2]

لا تعني أبداً الشهادة بالحق علو الصوت او الصراخ في وجه الاخرين، او بشكل اخر نعت الاخر المختلف عني بالمهرطق! فهذه ليست مسيحية على الاطلاق من الممكن ان تكون اي شيء اخر ولكنها لا توجد في مسيحيتنا، فالمسيحية تبني وتؤسس على المحبة كأسس لكل شيء بعدها، فان اختفت كلمة المحبة من الحق فأي حق هذا؟! اهو حق ابليس؟ وماذا لو ظهرت في وسط كلمات الحق روح الأنتقام من الاخر المختلف؟ ماذا لو ظهرت الشماته في ضيقته او حتي موته؟ هل يكون هذا حق؟! قد يكون هذا كما يذكر القديس إيرينيئوس "الذين يهتمون بمصلحتهم الشخصية وليس بوحدة الكنيسة" بعض الاشخاص يتكلمون بأسم الحق ولكنهم في الحقيقة يمجدون أنفسهم وذواتهم في سبيل نمو مصلحتهم الشخصية فقط لا غير!

لذلك الشهادة للحق، لا يمكن ان تكون منضبطه ما لم تبدأ بعمل داخلي من الروح القدس في النفس، كما يذكر القديس بولس الرسول  "فَكَيْفَ يَدْعُونَ بِمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يُؤْمِنُونَ بِمَنْ لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يَسْمَعُونَ بِلاَ كَارِزٍ؟ "[3]  لانه كيف تبشر او تعرف بحق ان لم تستلمه من الاصل؟ وان استلمته باللسان فكيف تبشر به ان كنت لا تختبره؟ فذلك الشهادة بالحق امر ليس بالهين، ويحتاج الي الكثير والكثير من الدموع والسهر والصلاة حتي يسكب الرب نعمة من العلاء، فتغير ما بدخلك الي أنجيل حي، قادر على الشهادة لله بالعمل والحق.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:

1- القديس اكليمندس السكندري - الستروماتا أي المتفرقات 4:4
2- القديس إيرينيئوس - ضد الهرطقات 7:33:4
3- رومية 10: 15

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة